تروي شهرزاد في فصلها الأخير، وعلى إيقاع موسيقى من تأليف الروسي ريمسكي كورساكوف:" الآن جاء دوركم، املأوا هذه الأوراق البيضاء بما شاهدتم، واختبرتم في أسفاركم، إن قصتي الأخيرة بين أيديكم وتبدأ معكم، أعلموا أنه ليس في الليالي كلها قصة أخيرة، في فصل أخير، وأن شهرزاد باقية معكم طالما هناك من يروي، ومن يكتب، ومن يقرأ، ..."
وبعد عروض استمرت على مدار 5 ليالٍ متواصلة، أسدل مسرح المجاز بالشارقة أمس، الستار على جمال الحكاية، وسحر الجمال الذي قدّمه عرض "ألف ليلة وليلة: الفصل الأخير"، الذي أعدّه ليكون فاتحة للاحتفالات الخاصة بنيل إمارة الشارقة لقب العاصمة العالمية للكتاب للعام 2019، حيث التقى على خشبة المسرح، خيول وأضواء وموسيقى، وصحراء قاحلة، وحكايات أسطورية، صاغها فنانون من 25 بلداً، ترجموا بإيقاع أجسادهم وسحر أدائهم سر القصص التي أعادت الأمل والحب إلى الأمير الغاضب شهريار.
وقدّم العرض الذي أنتجه مسرح المجاز، ونفّذه "مالتبل إنترناشونال" وبالتعاون مع "7 فنجرز" و “Artists in Motion”، وشارك فيه 537 خبيراً ومختصاً وفناناً عالمياً، 13 فناً مختلفاً من فنون الأداء، ى، والاكروبات، وفنون الضوء والظل، حيث استطاعت المشاهد أن تترجم الحكاية على إيقاعين الأول قائم على التعبير الأدائي الحركي المنسجم مع عزف الأوركسترا المكونة من 51عازفاً، والثاني قائم على صوت الراوي في العمل الذي يدفع العرض في منحى الحكاية ويقود أبطاله إلى مغامراتهم.
حول أهمية العرض وحجمه، قال الشيخ سلطان بن أحمد القاسمي، رئيس مجلس الشارقة للإعلام رئيس لجنة حفل افتتاح الشارقة العاصمة العالمية للكتاب 2019: "إن عرض (ألف ليلة وليلة: الفصل الأخير) سجل تاريخاً جديداً للعروض الفنية والمسرحية الإبداعية المنتجة محلياً في الدولة ومنطقة الخليج العربي، ونجح في تجسيد العوالم الساحرة والخيالية لألف ليلة وليلة على مسرح المجاز، الأمر الذي يؤكد ريادة إمارة الشارقة ورؤيتها في تقديم الثقافة الإنسانية إلى العالم من جديد من منصة تتويجها العاصمة العالمية للكتاب 2019".
وأوضح أن العرض قدّم الرؤية المركزية التي تنطلق منها إمارة الشارقة بتوجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الداعية إلى الانطلاق من المعرفة والكتاب في الحوار مع ثقافات العالم، وبناء علاقات متجددة وعميقة، ومد جسور التواصل بينها على أسس من الاحترام والتقدير والمحبة والسلام، لافتاً إلى أن رسالة شهرزاد في ختام العرض هي رسالة الشارقة إلى العالم أجمع، وإلى الأجيال الجديدة، قائلاً: "إن مهمتنا أن نواصل الكتابة والإبداع".
وبدأ التجهيز لهذا العرض المتكامل والأصيل منذ قرابة عام كامل، وبساعات تدريبية وصلت إلى 500 ساعة عمل، حيث تم تقديم العرض مباشرة وبصورة حية وبثلاث لغات هي العربية والإنجليزية والفرنسية، وجسّد العرض مشاركة العالم لإمارة الشارقة في احتفالها باللقب الثقافي الأرفع على مستوى العالم، حيث شارك في عروض الأداء فنانون من المكسيك والمملكة المتحدة والبرازيل وبيلاروسيا وسلوفينيا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية وكندا، كما شاركت كندا وفرنسا في التقنيات والإنتاج، بينما شارك موسيقيون ومغنون وممثلون وفرق تسجيل من الجمهورية التشيكية وهولندا وصربيا والجزائر وكندا ولبنان وأرمينيا والمملكة المتحدة.
إبهار بصري ولغوي
عبّر عن جماليات الحكاية وإيقاعات السحر في العرض تقنيات متطورة من الليزر والعرض الضوئي، تم توليفها بطريقة إبداعية لترسم خطوطاً من الجمال سردت جزءاً مهماً من حبكة العرض، حيث استطاع العمل أن يبدل مكان العرض وزمانه بالضوء فيتحول من قصر بأعمدة وأقواس وحدائق وجنان، إلى أدغال موحشة وكهوف غائرة، ومن بحر هادر يعصف الموج به، إلى قصر مهجور معتم ومظلم.
وقدّم "ألف ليلة وليلة – الفصل الأخير" مجموعة متكاملة من الفنون التي تعبّر في كل واحدٍ منها عن ثقافة وحضارة قديمة ومعاصرة، إذ يظهر الغناء العربي بصوت الفنانة الجزائرية سعاد ماسي، والموسيقى والغناء الأرمني عبر وتريات وآلات نفخيه اشتهرت بها أرمينيا، ومقاطع من موسيقى التانغو الأرجنتيني، فيما يتابع المشاهد للعرض رمزيات من الأدب اليوناني القديم، وتعابير راقصة من الصين، والهند، ولا يكتفِ العرض بذلك وإنما يقدم فنون "البريك دانس"، إلى جانب فنون التعبير الأدائي المعاصر، ومشاهد من القتال البرازيلي الراقص وغيرها من المشاهد الجمالية للرقصات التي حاكت ثقافات وفنون الشعوب.
وارتدى الفنانون أزياءً خاصة مبهرة شكّلت المحور الرئيس لمشاهد العمل بأكمله، حيث تم تصميم جميع الأزياء على أيدي 75فناناً، عكست أجواء حكايات ألف ليلة وليلة، إذ تظهر الفساتين الملونة والتيجان وعمائم السلاطين والأمراء، والقمصان المزخرفة التي تعرض صورة من فنون الحضارات الشرقية، ونقلت مشاهد العرض الجمهور إلى الواقع تارة، وأخرى نقلته بعيداً نحو رحاب الخيال، ففي الوقت الذي تحوّل في المسرح إلى قصر على الطراز الإسلامي، تدّلت الحبال والسلاسل من سقف المسرح وتحوّل العرض إلى حوار مبهر بين أجساد الفنانين.
حكاية تُفتح على عوالم الجمال والسحر والأساطير
ويروي العرض قصة شهرزاد التي طلبت من زوجها شهريار أن يجمع أبناءه الثلاثة الأميرة فيروز، والأميرين: أمين، وقادر، حيث توزع عليهم لفائف جلدية تحمل كل واحدة منها مهمة جلب شيء محدد، لتكشف لهم بعد إنجاز المهمات بنجاح عن سر الحكايات التي روتها، وتقدم لهم خلاصات حكمتها ومعرفتها.
فيروز.. أميرة الحب والأمل
ويبدأ العرض بقصة الأميرة فيروز التي خرجت بمهمة إلى حديقة الدمع، حيث تجد أميراً يعيش حزناً وكآبة قاسية بعد أن حلت على محبوبته لعنة حولتها إلى شجرة مقسومة إلى نصفين يعيش في كل نصف منها جانب من محبوبته، وتتجسد مهمة فيروز في فك تلك اللعنة للحصول على ما طلبته أمها، إذ تقنع الأمير الحزين بأنه يعاني من كل ذلك لأنه لا يحزن سوى على نفسه ولم يحزن على محبوبته، فتخرجه من ذلك بقولها: "عليك أن تتبنى الحب وتؤمن بالأمل والتسامح"، ليبدأ بعدها برؤية شجرة محبوبته وتحريرها، فتلتئم الشجرة وتخرج محبوبته له، وتحصل فيروز على رحيق الشجرة بعد فك لعنتها، فتكتشف أنها حصلت على قارورة حبر، ليطيرا بعدها على حبال من الحرير ويرقصان كفرشات الضوء على إيقاع أغنية "راوي" التي قدمتها بصوتها العذب الجزائرية سعاد ماسي.
قادر.. أمير الشجاعة والعزيمة
ويتواصل العرض مع حكاية الأمير قادر الذي تكلفه شهرزاد بالإبحار نحو الجزر الصامتة حيث توقف الزمن، إذ يواجه مخاطر السفر في بحار هادرة وليالٍ عاصفة، ليكسر جمود الزمن ويلتقي بالكائن الأسطوري الذي سيهديه شيئاً عزيزاً عليه، وهناك يواجه الأمير العديد من المصاعب، ويتغلب عليها فيظهر له طائر الفينيق الأبدي الذي تقول الأسطورة أنه يولد من رماد احتراقه، وتتجدد حياته مع كل اشتعال، حيث يمنح الأمير ريشة من جناحه.
أمين.. أمير المعرفة والحكمة
وفي المهمة الثالثة للأمير أمين يخرج نحو الوديان القاحلة للحصول على غرض يحوي المعارف التي يحلم المرء بامتلاكها، حيث يواجه هنالك جنياً غامضاً يرشده إلى غرضه، لكنه يشترط عليه الإجابة على عددٍ من الأسئلة التي تكشف بديهة وفطنة الأمير، فيسأله الجني: "كلها تجرح لكن الأخيرة تقتل"، فيجيب الأمير (الساعة)، وتتواصل الأسئلة حتى يرشده إلى غرضه ويدخل الأمير في مكتبة ضخمة يصعد فيها على برج من الكتب ليصل إلى الغرض الذي يكتشف أنه كتاب.
وقبل انتهاء الفصل الأخير من الحكاية، تجتمع شهرزاد الأبناء الثلاث، وتبدأ في قراءة الوصايا عليهم، وترشدهم للسبب الذي دفعها لطلب هذه الطلبات منهم فتقول:" الحبر الذي أتيتِ به يا أميرتي فيروز، هو الصديق الأزليّ للريشة التي وهبك إياها الطائر المتمردّ على الزمان يا قادر، وما الريشة والحبر إلا الأداتان اللتان تملأن ما يحتوي المعارف كلها (الكتاب)، افتحه يا أمين، نعم صفحاته بيضاء لأن أغنى وأجمل كتاب هو الذي لم يكتب بعد".